فصل: المسألة الأولى: (في قراءة قوله: {متاع}):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (23):

قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أعلم سبحانه أنهم اكدوا هذا الوعد هذا التأكيد، أتبعه بيان أنهم أسرعوا في نقضه غاية الإسراع فقال: {فلما أنجاهم} ولما أبانت الفاء عن الإسراع في النقض، أكد مناجاتهم لذلك بقوله: {إذا هم يبغون} أي يتجاوزون الحدود {في الأرض} أي جنسها {بغير الحق} أي الكامل، فلا يزال الباغي مذمومًا حتى يكون على الحق الكامل الذي لا باطل فيه بوجه، وجاء الخطاب أولًا في {يسيركم} ليعم المؤمنين لأن التسيير يصلح للامتنان، ثم التفت إلى الغيبة عند صدور ما لا يليق بهم- نبه على ذلك أبو حيان، وأحسن منه أن يقال: إنه سبحانه أقبل عليهم تنبيهًا على أنه جعلهم- بما هيأ فيهم من القوى- أهلًا لخطابه ثم أعرض عنهم إشارة إلى أنهم استحقوا الإعراض لإعراضهم اغترارًا بما أتاحهم من الريح الطيبة في محل يجب فيه الإقبال عليه والغنى عن كل ما سواه لعظم الخطر وشدة الأمر، وكأنه يذكر لغيرهم من حالهم ما يعجبه منه لينكر عليهم ويقبح حالهم؛ والتسيير: التحريك في جهة تمتد كالسير؛ والبر: الأرض الواسعة التي تقطع من بلد، ومنه البر لاتساع الخير به؛ والبحر: مستقر الماء الواسع حتى لا يرى من وسطه حافتاه؛ والفلك: السفن التي تدور في الماء، وأصله الدور، فمنه فلكة المغزل، والفلك الذي يدور فيه النجوم؛ والنجاة: التخليص من الهلاك؛ والبغي: قصد الاستعلاء بالظلم، وأصله الطلب؛ والحق: وضع الشيء في موضعه على ما يدعو إليه العقل؛ ثم بين أن ما هم فيه من الإمهال إنما هو متاع الدنيا وأنها دار زوال فقال تعالى: {يا أيها الناس} أي الذي غلب عليهم وصف الاضطراب {إنما بغيكم} أي كل بغي يكون منكم {على أنفسكم} لعود الوبال عليها خاصة وهو على تقدير انتفاعكم به عرض زائل {متاع الحياة الدنيا} ثم يبقى عاره وخزيه بعد الموت {ثم إلينا} أي خاصة {مرجعكم} بعد البعث {فننبئكم} على ما لنا من العظمة إنباء عظيمًا {بما كنتم} أي كونًا هو كالجبلة {تعملون} ونجازيكم عليه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا التضرع الكامل بين أنهم بعد الخلاص من تلك البلية والمحنة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحق.
قال ابن عباس: يريد به الفساد والتكذيب والجراءة على الله تعالى، ومعنى البغي قصد الاستعلاء بالظلم.
قال الزجاج: البغي الترقي في الفساد قال الأصمعي: يقال بغى الجرح يبغي بغيًا إذا ترقى إلى الفساد، وبغت المرأة إذا فجرت، قال الواحدي: أصل هذا اللفظ من الطلب.
فإن قيل: فما معنى قوله: {بِغَيْرِ الحق} والبغي لا يكون بحق؟
قلنا: البغي قد يكون بالحق، وهو استيلاء المسلمين عل أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة.
ثم إنه تعالى بين أن هذا البغي أمر باطل يجب على العاقل أن يحترز منه فقال: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا}
وفيه مسائل:

.المسألة الأولى: [في قراءة قوله: {متاع}]:

قرأ الأكثرون {متاع} برفع العين، وقرأ حفص عن عاصم {متاع} بنصب العين، أما الرفع ففيه وجهان: الأول: أن يكون قوله: {بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} مبتدأ، وقوله: {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} خبرًا.
والمراد من قوله: {بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} بغي بعضكم على بعض كما في قوله: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] ومعنى الكلام أن بغي بعضكم عن بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها.
والثاني: أن قوله: {بَغْيُكُمْ} مبتدأ، وقوله: {على أَنفُسِكُمْ} خبره، وقوله: {متاع الحياة الدنيا} خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هو متاع الحياة الدنيا.
وأما القراءة بالنصب فوجهها أن نقول: إن قوله: {بَغْيُكُمْ} مبتدأ، وقوله: {على أَنفُسِكُمْ} خبره، وقوله: {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} في موضع المصدر المؤكد، والتقدير: تتمتعون متاع الحياة الدنيا.

.المسألة الثانية: البغي من منكرات المعاصي:

قال عليه الصلاة والسلام: «أسرع الخير ثوابًا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابًا البغي واليمين الفاجرة» وروى «ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين» وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي.
وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه:
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة ** فأربع فخير فعال المرء أعدله

فلو بغى جبل يومًا على جبل ** لاندك منه أعاليه وأسفله

وعن محمد بن كعب القرظي: ثلاث من كن فيه كن عليه، البغي والنكث والمكر، قال تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ}.

.المسألة الثالثة: [في تفسير الآية]:

حاصل الكلام في قوله تعالى: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أيامًا قليلة، وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها {ثُمَّ إِلَيْنَا} أي ما وعدنا من المجازاة على أعمالكم {مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا، والإنباء هو الإخبار، وهو في هذا الموضع وعيد بالعذاب كقول الرجل لغيره سأخبرك بما فعلت. اهـ.

.قال السمرقندي:

{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ} يعني: يعصون {فِى الأرض بِغَيْرِ الحق}، يعني: الدعاء إلى غير عبادة الله تعالى والعمل بالمعاصي والفساد.
قوله تعالى الحق: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ}، يعني: إثم معصيتكم عليكم.
وهذا كقوله: {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بظلام لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] ويقال: مظالمكم فيما بينكم، يعني: على أنفسكم أي جنايتكم عليكم، وهذا كما يقال في المثل: المحسن سيجزى بإحسانه والمسيء يكفيه مساويه.
يعني: وباله يرجع إليه.
ثم قال: {مَّتَاعَ الحياة الدنيا}، يعني: تمتعون فيها أيام حياتكم.
{ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ}.
ويقال: عبثكم في الدنيا قليل، ويقال: عمر الدنيا في حياة الآخرة قليل {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} أي بعد الموت في الآخرة، {فَنُنَبّئُكُمْ}؛ يعني: نخبركم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
قرأ عاصم في رواية حفص {متاع} بالنصب ويكون نصبًا على المصدر، ومعناه تمتعون متاع الحياة الدنيا، وقرأ الباقون {متاع} بالضم ومعناه هو متاع الحياة. اهـ.

.قال الثعلبي:

{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ} يظلمون ويتجاوزون إلى غير أمر الله: {فِي الأرض بِغَيْرِ الحق يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} الآن وباله راجع إليها وجزاؤه لاحق، وأتم الكلام هاهنا كقوله تعالى: {لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ} [الأحقاف: 35] أي هذا بلاغ وقيل هو كلام متصل، والبغي ابتداء ومتاع خبره، وقوله على أنفسكم صلة المتاع ومعناه {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا} ولا يصلح لزاد المعاد لأنّكم استوجبتم غضب الله.
وقرأ ابن اسحاق وحفص: متاعًا بالنصب على الحال {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. اهـ.

.قال ابن عطية:

{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}
{يبغون}: أي يفسدون ويكفرون، والبغي: التعدي والأعمال الفاسدة، ووكد ذلك بقوله: {بغير الحق} ثم ابتدأ بالرجز وذم البغي في أوجز لفظ، وقوله: {متاعُ الحياة} رفع، وهذه قراءة الجمهور وذلك على خبر الابتداء، والمبتدأ {بغيكم}، ويصح أن يرتفع {متاع} على خبر ابتداء مضمر تقديره ذلك متاع أو هو متاع، وخبر البغي قوله: {على أنفسكم}، وقرأ حفص عن عاصم وهارون عن أبي كثير وابن أبي إسحاق: {متاعَ} بالنصب وهو مصدر في موضع الحال من البغي وخبر البغي على هذا محذوف تقديره: مذموم أو مكروه ونحو هذا، ولا يجوز أن يكون الخبر قوله: {على أنفسكم} لأنه كان يحول بين المصدر وما عمل فيه بأجنبي، ويصح أن ينتصب {متاع} بفعل مضمر تقديره: تمتعون متاع الحياة الدنيا، وقرأ ابن أبي إسحاق: {متاعًا الحياةَ الدنيا} بالنصب فيهما، ومعنى الآية إنما بغيكم وإفسادكم مضر لكم وهو في حالة الدنيا ثم تلقون عقابه في الآخرة، قال سفيان بن عيينة: {إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا} أي تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا، وعلى هذا قالوا: البغي يصرع أهله.
قال القاضي أبو محمد: وقالوا: الباغي مصروع، قال الله تعالى: {ثم بغي عليه لينصرنه الله} [الحج: 60] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أسرع عقوبة من بغي» وقرأت فرقة {فننبئكم} على ضمير المعظم المتكلم وقرأت فرقة: {فينبئكم}، على ضمير الغائب، والمراد الله عز وجل. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يبغون في الأرض}
البغي: الترامي في الفساد.
قال الأصمعي: يقال: بغى الجرح: إِذا ترامى إِلى فساد.
قال ابن عباس: يبغون في الأرض بالدعاء إِلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد.
{يا أيها الناس} يعني أهل مكة.
{إِنما بغيكم على أنفسكم} أي: جناية مظالمكم بينكم على أنفسكم.
وقال الزجاج: عملكم بالظلم عليكم يرجع.
قوله تعالى: {متاع الحياة الدنيا} قرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وحفص، وأبان عن عاصم: {متاعَ الحياة الدنيا} بنصب المتاع.
قال الزجاج: مَن رفع المتاع، فالمعنى أن ما تنالونه بهذا البغي إِنما تنتفعون به في الدنيا، ومن نصب المتاع، فعلى المصدر.
فالمعنى: تمتَّعون متاع الحياة الدنيا.
وقرأ أبو المتوكل واليزيدي في اختياره وهارون العتكي عن عاصم: {متاعِ الحياة} بكسر العين.
قال ابن عباس: {متاع الحياة الدنيا} أي: منفعة في الدنيا. اهـ.

.قال القرطبي:

{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ} أي خلّصهم وأنقذهم.
{إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أي يعملون في الأرض بالفساد وبالمعاصي.
والبغي: الفساد والشرك؛ من بَغَى الجرحُ إذا فسد؛ وأصله الطلب، أي يطلبون الاستعلاء بالفساد.
{بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي بالتكذيب؛ ومنه بَغَت المرأةُ طلبت غير زوجِها.
قوله تعالى: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} أي وَبَالهُ عائد عليكم؛ وتمّ الكلام، ثم ابتدأ فقال: {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} أي هو متاع الحياة الدنيا؛ ولا بقاء له.
قال النحاس: {بَغْيُكُمْ} رفع بالابتداء وخبره {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
و{على أنفسِكم} مفعول معنى فعل البَغْي.
ويجوز أن يكون خبره {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وتضمر مبتدأ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا؛ وبين المعنيين حرف لطيف، إذا رفعت متاعًا على أنه خبر {بغيكم} فالمعنى إنما بغى بعضكم على بعض؛ مثل: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وكذا {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}.
وإذا كان الخبر {عَلَى أَنْفُسِكُم} فالمعنى إنما فسادكم راجع عليكم؛ مثل {وَإنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}.
وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال: أراد أن البغي متاع الحياة الدنيا، أي عقوبته تعجل لصاحبه في الدنيا؛ كما يقال: البَغْيُ مَصْرعةٌ.
وقرأ ابن أبي إسحاق {مَتَاعَ} بالنصب على أنه مصدر؛ أي تتمتعون متاعَ الحياة الدنيا.
أو بنزع الخافض، أي لمتاع، أو مصدر، بمعنى المفعول على الحال، أي متمتعين.
أو هو نصب على الظرف، أي في متاع الحياة الدنيا، ومتعلق الظرف والجار والحال معنى الفعل في البغي.
و{عَلَى أَنْفُسِكُمْ} مفعول ذلك المعنى. اهـ.